كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



5- وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما». أخرجه أصحاب السنن.
6- وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر. (وكان كثير الصيام) فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وفي رواية أخرى وكان جلداً على الصوم.
7- وعن أنس رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر. فلا الصائم يعيب على المفطر ولا المفطر يعيب على الصائم. أخرجه مالك والشيخان وأبو داود.
8- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر؛ وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة رضي الله عنه.. أخرجه الشيخان وأبو داود.
9- وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك- رضي الله عنه في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ قال: نعم. ثم ركب.. أخرجه الترمذي.
10- وعن عبيد بن جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان. فدفع فقِّرب غداؤه، فقال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل وأكلت.. أخرجه أبو داود.
11- وعن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة رضي الله عنه خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط، وذلك ثلاثة أميال، في رمضان. فأفطر وأفطر معه ناس كثير. وكره آخرون أن يفطروا. فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه. إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. اللهم أقبضني إليك.. أخرجه أبو داود..
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر. وترجح الأخذ بها. ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ظل مرة صائماً مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة، فقد كانت له صلى الله عليه وسلم خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه. كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحياناً. أي يصل اليوم باليوم بلا فطر.
فلما قالوا له في هذا، قال: «إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني». أخرجه الشيخان وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا: أولئك العصاة. أولئك العصاة. وهذا الحديث متأخر- في سنة الفتح- فهو أحدث من الأحاديث الأخرى. وأكثر دلالة على الاتجاه المختار..
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات.. أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية، تقتضي توجيهاً معيناً كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد، ونجد فيها توجيهات متنوعة- فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي وكان يواجه حالات حية. ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة!
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل.. أما المرض فلم أجد فيه شيئاً إلا أقوال الفقهاء، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته، على وجوب القضاء يوماً بيوم في المرض والسفر، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح.
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها. وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين- كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقاً في طمأنينة إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه.
ثم نعود إلى استكمال السياق:
{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}..
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين- وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد- فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد- وهو مدلول يطيقونه- فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد- جعل الله هذه الرخصة، وهي الفطر مع إطعام مسكين.. ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً، إما تطوعاً بغير الفدية، وإما بالإكثار عن حد الفدية، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان: {فمن تطوع خيراً فهو خير له}.. ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة- في غير سفر ولا مرض-: {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}.. لما في الصوم من خير في هذه الحالة. يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية.
كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض- حتى ولو أحس الصائم بالجهد.
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً. كما جاء فيما بعد. وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء.. فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك رضي الله عنه كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي.. وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.. وعن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه...}.
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن- إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمناً، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئاً. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن:
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}..
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم- فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}..
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر. أو من رأى منكم هلال الشهر. والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان.
ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر:
{ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}..
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء:
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}..
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها. فهي ميسرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد.
سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها:
{ولتكملوا العدة}.
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر:
{ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}..
فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: {لعلكم تتقون}..
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير.
وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك.. نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة. نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله.. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء.. تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}..
فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}..
إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء: {أجيب دعوة الداع إذا دعان}..
إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح.
{فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}..
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.
وهي الرشد والهدى والصلاح. فالله غني عن العالمين.
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد. فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد. واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون- بإسناده- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين».
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- بإسناده- عن ابن ثوبان: ورواه عبد الله بن الإمام أحمد- بإسناده- عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم».
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي!».
وفي صحيح مسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله وما الاستعجال. قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
والصائم أقرب الدعاة استجابة، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده- بإسناده- عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة..» فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجه في سننه- بإسناده- عن عبد الله بن عمر كذلك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».